البرادعة… تاريخ يتحدث وهوية باقية
ليست الأرض مجرد مساحة تُرسم على الخرائط، بل ذاكرة حية تختزن قصص الأجداد وملاحم العطاء، وتُعيدنا إلى الجذور التي تمنحنا معنى الوجود والانتماء. وبين مدن تتغير ملامحها يوماً بعد يوم، تقف قبيلة البرادعة شامخة، كصفحة ناصعة من تاريخ مدينة المحمدية، ترفض أن تُمحى أو تُختصر في مشاريع عمرانية لا تحفظ للذاكرة حقها.
فالبرادعة ليست اسماً عابراً في الجغرافيا، بل جزء من الوجدان المغربي الأصيل. عراقتها تمتد لأكثر من ثلاثة قرون، وسكانها حملوا على عاتقهم قيم الأصالة، والكرم، والعلم، والغيرة على الوطن. ومن رحم هذه الأرض الطيبة خرج رجال عظام، من بينهم العلاّمة وقاضي القضاة الحاج الحسين البرادعي الزناتي الغازي، أحد فقهاء المغرب الكبار في عهد المولى الحسن الأول، والذي عُرف بعلمه الغزير ومؤلفاته الشرعية والتشريعية ومواقفه الوطنية المشرّفة.
إنه نموذج يختزل عمق هذه القبيلة، ويؤكد أن البرادعة كانت وما زالت مهدًا للعلم والكرامة والوفاء.
غير أن ما يثير القلق اليوم هو أن المشاريع العمرانية وإعادة الهيكلة التي تشهدها المنطقة قد تمتد لتطال اسم البرادعة نفسه. فهناك من يسعى إلى تغيير الاسم أو إبداله بمسميات جديدة، في تجاهل تام لما يمثله هذا الاسم من رمزية تاريخية وحمولة ثقافية متجذّرة.
إن الحفاظ على اسم البرادعة ليس مسألة شكلية، بل قضية ذاكرة وهوية. فالأسماء ليست تفاصيل يمكن الاستغناء عنها، بل هي جسور تربط الماضي بالحاضر. ومن يفرّط في الاسم، يفرّط في التاريخ، وفي الذاكرة الجماعية التي تشهد على من كنا ومن أين جئنا.
نحن لا نعترض على المشاريع المولوية الشريفة، ولا على جهود الدولة للنهوض بقطاع التعمير وتطوير البنية التحتية، فالتنمية مطلوبة ومحمودة، لكنها يجب ألا تكون على حساب التاريخ. فالتقدم الحقيقي هو الذي يُوازن بين الحداثة والأصالة، ويحترم الإنسان قبل العمران.
من هنا، فإن صوتنا يرتفع من قلب المحمدية، دعوةً مخلصة للجهات المعنية كي تُدرِك أن طمس اسم “البرادعة” ليس مجرد تغيير إداري، بل محو لجزء من هوية الوطن.
نرجو أن يُؤخذ هذا البعد بعين الاعتبار، وأن تُصان هذه الذاكرة العريقة من النسيان أو التذويب في أسماء جديدة مستعارة لا تمتّ للأصل بصلة.
فالبرادعة ليست مجرد منطقة، إنها حكاية وطنية متجذّرة، وصوت من الماضي ما زال يذكّرنا بأن من لا يحترم تاريخه، لا يستطيع أن يصنع مستقبله.
