في زمن تتقاذفه النظريات التربوية، والمراجعات المتكررة للمنظومة التعليمية، تنبعث في المغرب نماذج مشرفة تعيد الاعتبار للمدرسة الوطنية كفضاء للكرامة، والإبداع، والمواطنة. وفي مقدّمة هذه التجارب، تبرز تجربة الدكتور سعيد جميل، مؤسس مجموعة غاليلي التعليمية بمدينة المحمدية، التي أضحت عنوانًا للتميز والجديّة، ومجسّداً لفكرة أن المدرسة ليست مجرد بناية، بل مشروع مجتمعي طويل النفس.
من الحلم إلى التجسيد: مدرسة بفلسفة مختلفة حين أسّس الدكتور سعيد جميل مجموعته التعليمية، لم يكن هدفه استغلال فراغ ما أو تسويق خدمة نمطية كما تفعل بعض مؤسسات التعليم الخصوصي، بل كان يؤمن بأن التعليم رسالة قبل أن يكون قطاعاً، وأنه لا يمكن النهوض بوطن دون صناعة عقل، وبناء وعي، وتكوين إنسان.
وانطلاقًا من هذه القناعة، عمل على بناء مؤسسة تختلف عن السائد، سواء في هندستها البيداغوجية، أو في رؤيتها للقيم، أو في علاقتها بالمتعلمين وأسرهم، أو حتى في تموقعها داخل النسيج الاقتصادي والاجتماعي المحلي.
“البزنسة” مرفوضة… نحن مقاولة مواطنة تُنتج المستقبل خلال استضافته في برنامج على قناة فرانس 24 – النسخة العربية، طُرح على الدكتور سعيد جميل سؤال مباشر، يحمل في طياته النظرة الشعبية السائدة حول التعليم الخصوصي:
“ألا تعتقد أن التعليم الخصوصي في المغرب أصبح تجارة، أو نوعًا من البزنسة؟”
كان الجواب حادًا وواضحًا:
“أرفض هذا التوصيف جملة وتفصيلاً. لا أتحمّل حتى سماع كلمة ‘بزنسة’ عندما تُلصق بالتعليم. نحن لا نبيع سلعة. نحن نُنتج الإنسان، نصنع الوعي، ونؤسس الغد. مجموعتنا ليست مشروعًا تجاريًا، بل مقاولة مواطِنة، لأننا نعتبر التعليم وظيفة مجتمعية تتجاوز الربح.”
بل إن الدكتور جميل حرص على تصحيح المسار الفكري للنقاش، موضحًا أن الاقتصار على رفض “البزنسة” لا يعني ضمنًا الإقرار بها أو الإعتراف بها كأصل، إذ صرّح بوضوح:
“حين نقول : لسنا مجرد بزنسة، فكأننا نعترف ضِمنًا أن هناك طابعًا تجاريًا، بينما الحقيقة أننا من الأصل لا نعترف بمثل هذا الوصف، ولا نمارس التعليم بمنطق السوق.”
أرقام تتحدث… مليار درهم سنويًا لخزينة الدولة وفي مداخلته نفسها، قدّم الدكتور سعيد جميل معطيات قلّما تُثار في النقاش العمومي حول التعليم الخصوصي، منها أن:
“القطاع يُساهم سنويًا بما يناهز مليار درهم في خزينة المملكة، وهو رقم كبير يعكس الدور الاقتصادي للمؤسسات الجادة. لكن هذا لا يُحتسب غالبًا في الميزان الاجتماعي أو السياسي.”
وهو ما دفعه إلى المطالبة برؤية متوازنة تَعتبر هذه المؤسسات شريكًا وطنيًا، لا خصمًا اجتماعيًا، كما تُصوّره بعض الخطابات المتشنجة.
غاليلي… تعليم ينفتح على إفريقيا والعالم
لم تكتفِ مجموعة غاليلي بتقديم برامج تعليمية تقليدية، بل انفتحت على المحيط الدولي والإفريقي من خلال:
تنظيم الكرنفال الإفريقي تحت شعار: “المغرب بألوان إفريقيا”، وهو حدث تربوي ثقافي يُعبّر عن انتماء المغرب العميق لقارته. مشاركة تلاميذ المؤسسة في أنشطة دولية بالأمم المتحدة، ما عزّز حضور المدرسة المغربية في محافل القرار والتغيير. الرهان على التنوع الثقافي والفني من خلال المسرح، والفنون، واللغات، ومختلف الأندية. رؤية أخلاقية… مدرسة تُربّي قبل أن تُدرّس من المبادئ المؤسسة لتجربة الدكتور جميل:
أن القيمة تسبق المعلومة. أن المدرسة ليست مطبعة للشواهد، بل مصنعًا للضمير الوطني.
أن التربية لا تُختزل في النجاح الدراسي، بل تشمل تكوين الشخصية، غرس الانتماء، وتشجيع روح المبادرة. مرافعة إعلامية من أجل العدالة التربوية لم يكن الدكتور سعيد جميل من رجال الظل، بل اختار أن يُدافع عن تجربته في الإعلام، ويدخل النقاش العمومي من بابه الواسع، بأدب وهدوء، وبأرقام وحجج، مؤكداً دوماً أن:
“من حق المغاربة أن يحصلوا على تعليم جيد، لكن من واجب الجميع أن يحترم من يقدمه بجديّة، سواء كان عموميًا أو خصوصيًا.”
بل دعا إلى صيغة تكاملية ذكية بين القطاعين، عوض خلق صراع وهمي لا يخدم إلا استمرار الاختلالات.
خاتمة: مدرسة الدكتور جميل… مدرسة مقاومة ضد التفاهة والسطحية في زمن أصبح فيه التعليم الخصوصي مرادفًا في أذهان كثيرين لـ”الربح السريع”، تُقدم تجربة الدكتور سعيد جميل نموذجًا مختلفًا، يقوم على المعرفة، والانتماء، والالتزام الوطني. إنه رجل يرفض أن تُختزل المدرسة في فاتورة، أو أن يُقاس نجاحها بعدد التلاميذ أو الأرباح، بل يؤمن أن نجاحها الحقيقي يظهر حين يتحول التلميذ إلى مواطن نافع، حر، ومُبادر.
وقد لخّص كل هذه الفلسفة في عبارة بليغة حين قال:
“إذا أنتجنا شهادة فقط، سنبيع أوراقاً. وإذا أنتجنا وعياً، فسنكوّن وطناً.”